أنا أحب أحدًا ما، أطفق عليه بسيل من الاهتمام، أجلب له الهدايا، أطمئن عليه ليلاً نهارًا، بل وأحاول استغلال كل فرصة لأبدي له اهتمامي. بالمقابل يواجه الطرف الآخر هذا الاهتمام بالتجنب والتهرب، أو ربما بالنفور حتى. لماذا يحدث هذا؟!
لا بد أن هذا السيناريو قد مر علينا ولا بد أننا طرحنا هذا السؤال على أنفسنا كرد فعل منطقي. إنها ظاهرة كثيرة الملاحظة في العلاقات الاجتماعية؛ أن يُقابَل فرط الاهتمام بالتجاهل أو حتى النفور.
للوهلة الأولى تبدو المسألة معضلة فكرية يصعب تحليلها، لكن بمعرفة مصدرها وتفسير نشأتها تغدو هي، بل وكثير من الظواهر السلوكية غيرها أيسر التفكيك والفهم.
يمكننا تلخيص الجواب على تساؤلنا في سببين اثنين:
الأول هو :
أن غالبية ردود أفعالنا مبنية على أساس برمجية دماغية تمت خلال مرحلة الطفولة، وأكاد أجزم بأن لا أحد مر بطفولة صحية على المستوى النفسي. إن أولى تجاربنا مع الحب والعلاقات تمثلت في علاقتنا من والدينا ونحن أطفال. لم يكن آباؤنا أو حتى أمهاتنا متواجدين بجانبنا على الدوام، بل كانوا يتركوننا نبكي على الباب رافضين فراقهم وهم ذاهبون إلى عملهم، فارتبط لدينا الحب بالفراق والألم. كانت هناك لحظات تلقّينا فيها التوبيخ أو ربما الحرمان من لعبة، لقد ربط دماغنا هذه التصرفات بالنموذج المثالي للحب، تجربته الأولى مع العواطف، واستنتج - بشكل خاطئ- أن الاهتمام المثالي هو المرتبط بالألم والامتناع.
أما السبب الثاني فهو :
شعورنا بالخوف، الخوف اللاشعوري كرد فعل على الاهتمام المقدم من الطرف الآخر. كيف ذلك؟! إن في أدمغتنا خلايا تدعى بالخلايا المرآتية mirror cells، وتعمل هذه الخلايا على تقليد تصرفات الشخص الذي أمامنا -ويقال أنها المسؤولة عن ظاهرة عدوى التثاؤب. في حالتنا هذه وعندما يشرع دماغنا بمحاولة تقليد الاهتمام الذي نحظى به يصاب بالخوف من عدم مقدرته على الوفاء بما يقدَّم إليه، فيفضل الابتعاد هربًا من الضغط النفسي الذي يولده الاهتمام.
هذا بطبع الحال جواب ملخص بشدة، ولمن أراد التبحر أكثر فقد تحدث الفيلسوف ما بعد الحداثي "ألان دو بوتون Alain de Botton” في كتابه The School of Life وعدد من مقاطعه على اليوتيوب مفسرًا الكثير من السلوكيات الاجتماعية العصية على فهمنا.
وأخيرًا فإن الحل أمام عقولنا مسبقة البرمجة يكمن في الاعتدال والموازنة، قد نتمكن من تغيير برمجتنا أو معرفة عيوبها على الأقل لكننا لا نستطيع تغيير برمجة عقول الآخرين، ولعل أحلام مستغانمي أصابت جدًا حين قالت: "الحب هو ذكاء المسافة. ألّا تقترب كثيراً فتُلغي اللهفة، ولا تبتعد طويلًا فتُنسى. ألّا تضع حطبك دفعةً واحدةً في موقد من تُحب"